الأربعاء، 21 أغسطس 2019

خلق آدم على صورة الرحمٰن !

عن أبي هريرة: قال النبي ﷺ: «إذا ضرَبَ أحدُكم فليَجتَنِبِ الوَجْهَ، ولايَقُلْ: قَبَّحَ اللهُ وَجهَكَ، ووَجْهَ مَن أشبَهَ وَجهَكَ؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ خلَقَ آدمَ على صورَتِه.»

قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند ٩٦٠٤  :  "إسناده قوي" 


# لقد كَره الإمام مالك إذاعة هذا الحديث بتمامه وأحبَّ الاكتفاء بأول الحديث لحاجة الناس إليه وترتب عملٍ عليه لينتهوا عما نُهوا عنه من ضرب الوجه وتقبيحه، واختارَ أن يُخزَن عن العامة باقي الحديث، ولايحسن هذا الكتمان لولا خشية الفتنة وأن يُساء فهْمُ الحديث ويُظن بالله ما لاينبغي. وهذا الحديث يوهم كثيرا من الناس أمرا عظيما لاينبغي إثبات مثله بدلالة ظنّية محتملة، وهي دلالة أنكرها ونفاها غير واحد من أئمة الإسلام.

      فحديث الصورة إذن من المتشابه الذي يجب فهمه في ضوء المحكم:﴿لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦشَیۡءࣱ…﴾ ،، وهذه الآية هي أصل الأصول المحكمات في باب الصفات. 

فلايمكن لهذا الحديث أن يكون من أحاديث الصفات أصلا فهو كقوله تعالى: ﴿فَأَیۡنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجۡهُ اللهِ﴾ فلاريب أن لله وجهًا صفة ذات إلا أن هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا، كذلك لاريب أن لله صورة ولكن الصورة في حديث الباب ليست صفةً لذات الباري سبحانه، ولكن الأئمة رووه وسكتوا عن تفسيره حذرا من الزلل والقول على الله بغير علم حتى جاء ابن خزيمة ومن قبله أبوثور فاجتهدا في تفسيره تخليصا للحق من أوهام الخلق، فليس هذا من التحريف ولا من التأويل المذموم في شيء، بل هذا اجتهاد يُمدح ويفخر به مخالفةً للذين عابهم الله بأنهم أمّيّون لايعلمون الكتاب إلا أماني غاية علمهم تلاوة اللفظ دون فهم وتفقه في معانيه، لاسيما وأن أئمة الإسلام الذين رووا هذا الحديث وأمسكوا عن الخوض في معناه إنما آثروا السلامة فسكتوا. 


ولقد أثبتنا لله حقيقة النزول بذاته إلى سماء الدنيا مع تنزيهه -سبحانه- عن اللوازم التي تلزم المخلوق إذا نزل بذاته مِن علۡوٍ إلىٰ سفۡل، لأننا لانملك إلا التسليم لما ثبت بدلالة ظاهرة غير محتملة قد أجمع عليها الأئمة الأعلام ولم ينازع فيها إلا المبتدعة أهل الأهواء والضلالات، أما حديث الصورة فإن دلالته فيها مافيها حتىٰ نازع فيها إمام الأئمة ابن خزيمة، وقد سبقه أبو ثور الذي شبهه الإمام أحمد بسفيان الثوري في الاتِّباع ولزوم السنة فقال فيه:«هو عندي في مسلاخ سفيان الثوري، أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة.» وفيات الأعيان[٢٦/١] .


*لو قيل:- 

        إن إثبات خلق آدم على صورة ذات الرحمن لايستلزم التشبيه؛ فصورة ذاته سبحانه كسائر صفات ذاته لا يشابهه فيها شيء من مخلوقاته إنما هو اشتقاق من المعنى العام للصورة الحسنة لا في الكيفية فحقيقة الصورتين في الواقع مختلفة ومتباينة في أقصى ما يُتصور من التميّز والتغاير والافتراق.


قلتُ:-

     إذن فيلزم أن لا يستوجب شيئا زائدا تجاه صورة آدم فتذهب فائدة الحديث؛ لأن كل الصفات من سمع وبصر وحياة...إلخ لا بد لها من تشابهٍ في أصل المعنى، وبهذا التشابه أمكنَ إدراكُ وفهمُ ما وُصِف اللهُ به من ذلك، ثم تتفاوت الصفات في الواقع الفعلي بحسب الموصوف بها، حتى معنى الوجود له أصل كليّ مشترك وهو معنىً مجرّد في الذهن أما في الواقع فوجود المخلوق غير وجود الخالق ولا نسبة بين الوجودين إلا كالنسبة بين الخالق والمخلوق.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في [شرح حديث النزول] صفحـ١١١ـة :-

«ولولا أن هذه الأسماء والصفات تدل على معنىًٰ مشتركٍ كُـلّيٍّ يقتضي من المواطأة والموافقة والمشابهة ما به نفهم ونثبت هذه المعاني لله لم نكن قد عرفنا عن الله شيئا ولا صار في قلوبنا إيمان به ولا علم ولا معرفة ولا محبة ولا إرادة لعبادته ودعائه وسؤاله ومحبته وتعظيمه، فإن جميع هذه الأمور لا تكون إلا مع العلم، ولا يمكن العلم إلا بإثبات تلك المعاني التي فيها من الموافقة والمواطأة ما به حصل لنا ما حصل من العلم لما غاب عن شهودنا.»

   قلتُ:-

     فهو إذن مناطٌ  منقوض لا يطّرد، وإلا فكل شيء موجود فله اشتقاق من أصل معنى الوجود !

فكذلك وجه الإنسان الذي هو صورته التي بها يُؤلَف ويـُـستأنَس به.

*عن عبد الله بن عمر: نَهى رسولُ اللهِ ﷺ أنْ تضربَ الصُّورة يعني: الوَجْهَ.

قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند ٤٧٧٩  : "إسناده صحيح على شرط الشيخين".

وعن عبدالله بن عباس:  قال النبي ﷺ: «الصُّورَةُ الرَّأْسُ، فإذا قُطِعَ الرَّأْسُ، فلاصُورَةَ.».  صححه الألباني، السلسلة الصحيحة ١٩٢١


 وسيأتي أن لبعض التأويلات المأثورة عن أهل السنة من المناسبة بين أول الحديث وآخره ماهو أظهر فائدة وأبلغ في الزجر عن ضرب الوجه وتقبيحه.

والذين تأوّلُوه إنما تمثّلوا توجيه إمامين من أئمة الصحابة علما وعملا، فقد ثبت عن علي بن أبي طالب و عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما:- «إذا حُدِّثتُم عن رسولِ اللهِ ﷺ بحديثٍ فـظُـنُّـوا به الذي هو أهدىٰ والذي هو أتقىٰ والذي هو أهيأ.» رواه أحمد والدارمي وابن ماجه وصححه الألباني.

فأقل ما يُقال:-

 إن التفقه والبحث في مثل هذا الحديث سائغ بل مطلوب وإن كانت بعض التأويلات ظاهرة الفساد ولايحتملها لفظ الحديث ولاتناسب النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه.

وأقل أحوال هذه المسألة أن تكون مما يسوغ فيه الاختلاف فلايُعاب إلا  من تعسف في نصرة رأيه وقصّر في التثبت والتحقق.

  وإنه ليصعب جدا أن يُـتـصور له معنىً يتفق مع:﴿لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦشَیۡءࣱ﴾ إلا إذا كان المراد الصورة التي خلقها الله وأبدعها، كما نقول: هذا البناء تصميم فلان، وكما تُـنسب أي لوحة فنية إلى الذي رسمها فيصح أن نقول لها: هذه صورة الرسام فلان، ونحو ذلك، وإلا كان في الحديث نوع تشبيه أو تكييف لوجه البارئ وصورة ذاته سبحانه وتعالىٰ علوا كبيرا.


 قال ابن تيمية وهو يتحدث عن إضافة الصفات:-

«...فإذا أضيفت إليه عُلِمَ أنها صفة له لكن قد يعبّر باسم الصفة عن المفعول بها فيسمّى المقدور قدرة والمخلوق بالكلمة كلامًا والمعلوم علمًا والمرحوم به رحمة كقول النبيﷺ : «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة» . وقوله -تعالىٰ- فيما يروي عنه نبـيُّه أنه قال للجنة: «أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء»، ويقال للمطر والسحاب هذه قدرة قادر وهذه قدرة عظيمة ويقال في الدعاء: "غفر الله لك عِلْمَه فيك" أي: معلومَه.» الجواب الصحيح [٣٦٢/١]

فعيسىٰ ابنُ مريم روحُ الله وكلمتُه، أي: خُلِق بكلمة الله:(كن)، لا أنه نفس الكلمة. كما قال الإمام أحمد: «وتفسير: ''رُوح الله" إنما معناها: أنها روحٌ بكلمة الله خلقها الله، كما يُقال: عبد الله وسماء الله وأرض الله.»[الرد على الزنادقة والجهمية] صفحـ٢٥٢ـة بتحقيق دغش العجمي.

وقال الإمام المرزوقي في [شرح الحماسة ٢٨٦] :-

«وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنىٰ مناسبة بينهما، سواء كان له أو عليه، أو معه أو فيه، أو من أجله، أو مما يليه.»

قال ابن تيمية:-

 «..بيت الله لايدل على أن الله ساكن فيه، لكن إضافة كل شيء بحسبه، بل بيته هو الذي جعله لذكره وعبادته ودعائه..» مجموع الفتاوى[٤٣٢/٢٠].

وفي الحديث الذي رواه مسلم عن جابر بن عبدالله أن النبيﷺ قال:-

«إِنَّ المرأةَ تُقْبِلُ فِي صورَةِ شيطانٍ، وتُدْبِرُ فِي صورةِ شيطانٍ، فإذا رأى أحدُكُم امرأةً أعجبَتْهُ فليأْتِ أَهْلَهُ، فإِنَّ ذلِكَ يرُدُّ ما في نفسِهِ».

ولايشك عاقل أن المقصود هنا الصورة التي يزينها الشيطان ويفتن بها لاصورة ذاته.


★ولو قيل:-

          إنه بتأويله على الصورة التي خلقها الله تذهب فائدة الحديث لأنه خصص آدم بذلك من بين سائر المخلوقات التي هي على صورة الرحمن التي خلقها لها ؟!

فالجواب:-

*أن الإضافة المعنوية تأتي كثيرا للاختصاص بالتفضيل والتكريم.

كما قال ابن تيمية:-

«..لكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره حتىٰ استحق الإضافة، كما اختصت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم: "بيت الله" و "ناقة الله" و "عباد الله" ، كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها: "روح الله". بخلاف الأرواح الخبيثة كأرواح الشياطين والكفار فإنها مخلوقة لله ولاتضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة، كما لاتضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة، ولانوق الناس كما تضاف ناقة صالح التي كانت آية من آياته كما قال تعالىٰ: ﴿هَـٰذِهِۦ نَاقَةُ اللهِ لَكُمۡ ءَایَةࣰ﴾. » الجواب الصحيح [٢٤٠/٢]

     والإنسان خلقه الله على أحسن تقويم، فأضيفت صورته إلى الرحمن تكريما وتفضيلا؛ فإن صورة الآدمي أحسن صورة خلقها الله فهي آية دالة على قدرته وحسن صنعه وبديع خلقه فليس لنا أن نعدو عليها بالفعل ولا بالقول. وعيب الصنعة عيبٌ لصانعها، فلاينبغي تقبيح صورة ميّزها الله ورفعها علىٰ باقي الصور فهي صورته التي اصطفاها ومـيـّـزها على جميع الصور وهذا مناسب جدا لتمييز آدم بمباشرة الرحمن لخلقه بيديه سبحانه وتعالى.


* كل ماسبق إنما هو علىٰ التسليم بصحة لفظ «..على صورة الرحمن»، فقد طُعن فيه وأعله ابن خزيمة بعلل ثلاث وذكر له الألباني علة رابعة شرَحها في السلسلة الضعيفة.

*ولقد أعرض الإمام مسلم عن هذا اللفظ في صحيحه مع عادته المعروفة في ذكر الألفاظ المختلفة للحديث الواحد، فلم يخرجه إلا باللفظ المشهور: «..علىٰ صورته».

 بل لم يرد لفظ «..على صورة الرحمن» في شيء من الكتب الأصول كالكتب الستة ومسند أحمد وموطأ مالك ونحوها من الصحاح والمسانيد والسنن المشهورة التي يقل فيها الغرائب والمناكير.

ولقد أشار ابن قتيبة إلى ركاكة تركيبه لأنه يشبه قولك: "..إن الله خلق آدم على صورة الله"، وكأنه من تصرف بعض الرواة بقصد منع البحث والاجتهاد في مايمكن أن يحتمله لفظ:«علىٰ صورته» من أوجه ومعانٍ، وهذا من التعدي واللجاج كما يقول ابن قتيبة.


★ وما ذُكر آنفا من تأويل إنما بُنِيَ على التسليم أيضا بأن الضمير في: (صورته) راجع إلىٰ ذات الله سبحانه وتعالى.

    وإننا لفي سعة من مرجع الضمير إذ رجوعه إلى المضروب في وجهه أو المقبَّح مناسبٌ تمام المناسبة للنهي عن ضربه، فإن الإنسان بطبعه يشق عليه أن يضرب وجها تشبه صورته صورة أبيه، وما جيء بذكر الأب والوالد (آدم) إلا لتنفير المؤمن من ضرب شبيه أبيه في الصورة وهو مكرّم في أصله ولو استحق القتل والرجم والتعذيب في غير الوجه، فذكّرنا النبي ﷺ بأن آدم أبانا على هذه الصورة فلايصح أن نوقع عليها ضررا معنويا بالقول أو ماديا بالفعل. إلا أن يكون قصاصا العين بالعين والأنف بالأنف وهكذا. أما العقوبات العامة فلا حاجة لإيصالها للوجه ولو كان المضروب يستحق القتل وهذا يشبه عقوبة الحرق بالنار فقد ثبت النهي عنها وقال ﷺ :«إنه لاينبغي لأحد أن يُعذب بعذاب الله».


================

وليس حديث الصورة بأوّل نص تأوّله أهل السنة:-

قال الله تعالى: ﴿وَلِلهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُ فَأَیۡنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجۡهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَ ٰ⁠سِعٌ عَلِیمࣱ﴾

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى [٤٢٩/٢] :-

«..أي قبلة الله ووجهة الله، هكذا قال جمهور السلف وإن عدّها بعضهم في الصفات…وهو الوجه الذي لله والذي أمر الله أن نستقبل. فإن قوله:﴿ولله المشرق والمغرب﴾ يدل على أن وجه الله هناك من المشرق والمغرب الذي هو لله...» 

ومن ذلك ماجاء عن بعض السلف في تفسير: ﴿الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة..﴾ الآية قال: مثَل نوره في قلب المؤمن.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى [٤٣٤/٢٠] :-

«وقلنا: المساجد بيوت الله فيها ما بني للقلوب والألسنة من معرفته والإيمان به وذكره ودعائه والأنوار التي يجعلها في قلوب المؤمنين كما في قوله تعالى:﴿الله نور السماوات والأرض﴾ ثم قال: ﴿مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة﴾ إلى قوله: ﴿في بيوت أذن الله أن ترفع﴾  فبين أن هذا النور في هذه القلوب وفي هذه البيوت كما جاء في الأثر: " إن المساجد تضيء لأهل السماوات كما تضيء الكواكب لأهل الأرض ".»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق