الجمعة، 14 فبراير 2020

النزول الإلٰهي !

قال رسول الله ﷺ : «يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يقولُ: مَن يَدْعُونِي فأسْتَجِيبَ له، مَن يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ له.»

  أقول:- 

★ نزول الله -تعالى- إلى السماء الدنيا هو اقترابه بذاته من خلقه كيف يشاء -سبحانه- وهو نزولٌ ذاتيٌّ حقيقةً لأن الله له العلوّ المطلق على خلقه فلا يكون اقترابه منهم إلا نزولا، فهو إذن فرعٌ، والإيمان الصحيح بصفة العلوّ أصلٌ،  فباستقامته يستقيم وبعوجه يعوجّ !

★ ولا يلزم من ذلك خلوّ العرش منه -سبحانه- ولا أن يعلوَه -سبحانه- شيءٌ من مخلوقاته فهذه الصفة تابعة لذاته التي لا تُقاس بذوات المخلوقين ولايجري عليها من السنن والقوانين الكونية ما يجري على المخلوقين، فلايصح بحالٍ قياسُ نزوله بنزول المخلوقين، لأن الله العـظـيـم الكـبـيـر القديـر لا يُعجزه أن يدنو ويقرب من خلقه دون أن يفقد استواءه على العرش وفوقيّته وعلوّه على الخلق.

فأفعال المخلوق وما يلزمها ويصحبها وما يجوز عليه وما لايجوز كل ذلك من خصائص المخلوق الضعيف المقهور المحكوم بأحكام الله الكونية التي وُجدت معه قدَرا مقدورا لا يفارقه:{یَـٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُوا۟ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُوا۟ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَـٰنࣲ}
أما الواحد القهار فلا يمكن أن يحدّه ويُـقـيّـده ما أبدعه ووضعه هو-سبحانه- من حدود وقيود كونية خاصة بأجساد المخلوقات وذواتهم، وقد أبطل الله بعض هذه السنن لبعض أنبيائه كإبراهيم إذ صارت النار بردا وسلاما عليه.

وهذا هو معنى قول بعض السلف حين سُئل عن النزول: «آمنتُ برب يفعل ما يشاء». وقال حماد بن زيد: «إن الله على عرشه، ولكن يقرب من خلقه كيف شاء.»
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول:-
«..وهذا الباب ـ ونحوه ـ إنما اشتبه على كثير من الناس؛ لأنهم صاروا يظنون أن ما وُصِف الله ـ عز وجل ـ به من جنس ما توصف به أجسامهم، فيرون ذلك يستلزم الجمع بين الضدين؛ فإن كونه فوق العرش مع نزوله يمتنع في مثل أجسامهم.»

وقال -رحمه الله-عن أهل الحديث :-
«وجمهورهم على أنه لا يخلو منه العرش، وهو المأثور عن الأئمة المعروفين بالسنة، ولم ينقل عن أحد منهم بإسناد صحيح ولا ضعيف أن العرش يخلو منه.»
    وقال -رحمه الله- أيضا:-
«...وهو الصواب وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها: أنه لا يزال فوق العرش ولا يخلو العرش منه مع دنوّه ونزوله إلى السماء الدنيا ولا يكون العرشُ فوقَه. وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزَّه عن ذلك»
وقال أيضا:-
«...وكذلك نزوله بالليل...وهذا كما أن حسابه لعباده يوم القيامة يحاسبهم كلهم في ساعة واحدة، وكلٌ منهم يخلو به...فيقرره بذنوبه، وذلك المحاسَب لا يرىٰ أنه-سبحانه- يحاسِب غيرَه...وقال رجل لابن عباس: كيف يحاسب الله العباد في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة...وكذلك سمعه لكلامهم يسمع كلامهم كله مع اختلاف لغاتهم وتفنن حاجاتهم، يسمع دعاءهم سمع إجابة، ويسمع كل ما يقولونه سمع علم وإحاطة لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرّم بإلحاح المـلحـّـيـن، فإنه -سبحانه- هو الذي خلق هذا كله، وهو الذي يرزق هذا كله وهو الذي يوصل الغذاء إلى كل جزء جزء من البدن على مقداره وصفته المناسبة له، وكذلك من الزرع.
وكرسيه قد وسع السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما، فإذا كان لا يؤوده خلقه ورزقه على هذه التفاصيل، فكيف يؤوده العلم بذلك، أو سمع كلامهم، أو رؤية أفعالهم، أو إجابة دعائهم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ﴿وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِیعࣰا قَبۡضَتُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ مَطۡوِیَّـٰتُۢ بِیَمِینِهِۦۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾
وهذه الآية مما تبين خطأ هؤلاء ... وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه، ويقول: أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الأرض».
 فإذا كان -سبحانه- يطوي السموات كلها بيمينه وهذا قدرها عنده، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم"، وهو -سبحانه- بـَـيـَّـنَ لنا من عظمته بقدر ما نعقله...وقد قال تعالى: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَهُوَ یُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَـٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ﴾، قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، ثنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَهُوَ یُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَـٰرَ﴾ قال: «لو أن الجن والإنس والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا»، فمن هذه عظمته كيف يحصره مخلوق من المخلوقات؟! سماء أو غير سماء حتى يقال: إنه إذا نزل إلى السماء الدنيا صار العرشُ فوقه أو يصير شيءٌ من المخلوقات يحصره ويحيط به سبحانه وتعالى.
فإذا قال القائل: هو قادر على ما يشاء، قيل: فقل: هو قادر على أن ينزل -سبحانه وتعالىٰ- وهو فوق عرشه، وإذا استدللت بمطلق القدرة والعظمة من غير تمييز فما كان أبلغ في القدرة والعظمة فهو أولىٰ بأن يوصف به مما ليس كذلك...[فكونه] ينزل مع بقاء عظمته وعلوّه على العرش أبلغ في القدرة والعظمة وهو الذي فيه موافقة الشرع والعقل.»

قلتُ:-
    لا شك أن إثبات النزول للذات يتضمن بالضرورة إثبات نوع من (الحركة)، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في آخر كتابه[شرح حديث النزول] متحدثا عن صفة (الحركة):-
«...وأما الذين أثبتوها بالمعنى العام حتى يدخل في ذلك قيام الأمور والأفعال الاختيارية بذاته، فهذا قول طوائف ... كأبي الحسين البصري، وهو اختيار أبى عبدالله بن الخطيب الرازي وغيره من النظار، وذكر طائفة: أن هذا القول لازم لجميع الطوائف...
وكثير من أهل الحديث والسنة يقول: المعنى صحيح، لكن لا يُطلق هذا اللفظ لعدم مجيء الأثر به، كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر وغيره في كلامهم على حديث النزول.
والقول المشهور عن السلف عند أهل السنة والحديث: هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة من أنه يأتي وينزل، وغير ذلك من الأفعال اللازمة.
قال أبو عمرو الطلمنكي: أجمعوا ـ يعني أهل السنة والجماعة ـ على أن الله يأتي يوم القيامة والملائكة صفا صفا لحساب الأمم وعرضها كما يشاء وكيف يشاء، قال تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملآئكة وقضي الأمر} وقال تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا}.
قال: وأجمعوا على أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به الآثار كيف شاء، لا يحدون في ذلك شيئا، ثم روى بإسناده عن محمد بن وضاح  قال: حدثنا زهير بن عباد قال: كل من أدركت من المشايخ: مالك بن أنس وعبدالله بن المبارك ووكيع بن الجراح يقولون: «النزول حق»، قال ابن وضاح: سألت يوسف بن عدي عن النزول فقال: «نعم، أقرّ به ولا نحد فيه حدّا». قال: وسألت يحيى بن معين عن النزول فقال: «نعم، أقر به، ولا أحد فيه حدا.»
والقول الثالث: الإمساك عن النفي والإثبات، وهو اختيار كثير من أهل الحديث والفقهاء والصوفية، كابن بطة وغيره. وهؤلاء فيهم من يعرض بقلبه عن تقدير أحد الأمرين، ومنهم من يميل بقلبه إلى أحدهما، ولكن لا يتكلم لا بنفي ولا بإثبات. والذي يجب القطع به أن الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه. فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعا، كمن قال: إنه ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار، كقول من يقول: إنه يخلو منه العرش، فيكون نزوله تفريغا لمكان وشغلا لآخر، فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه كما تقدم، وهذا هو الذي تقوم على نفيه وتنزيه الرب عنه الأدلة الشرعية والعقلية؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- أخبر أنه الأعلى، وقال: {سبح اسم ربك الأعلى} … وإن كان لفظ العلو يقتضي علو ذاته فوق العرش فهو -سبحانه- الأعلى من كل شيء، كما أنه أكبر من كل شيء. فلو صار تحت شيء من العالم لكان بعض مخلوقاته أعلى منه ولم يكن هو الأعلى، وهذا خلاف ما وصف به نفسه...
وكذلك سائر النصوص تبين وصفه بالعلو على عرشه في هذا الزمان، فعُلِم أن الرب -سبحانه- لم يزل عاليا على عرشه، فلو كان في نصف الزمان أو كله تحت العرش أو تحت بعض المخلوقات لكان هذا مناقضا لذلك.
وأيضا، فقد ثبت في الحديث الصحيح ـ الذي رواه مسلم وغيره ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "، وهذا نص في أن الله ليس فوقه شيء، وكونُه الظاهر صفةٌ لازمة له مثل كونه الأول والآخر، وكذلك الباطن، فلا يزال ظاهرا ليس فوقه شيء، ولا يزال باطنا ليس دونه شيء. [أي: لايحجبه شيءٌ عن شيءٍ من خلقه كمالًا في علمه وقدرته]
...وهو مما يبين أن الله لا يزال عاليا على المخلوقات مع ظهوره وبطونه وفي حال نزوله إلى السماء الدنيا.
وأيضا، فقد قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} فمن هذه عظمته يمتنع أن يحصره شيء من مخلوقاته، وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية أحاديث صحيحة اتفق أهل العلم بالحديث على صحتها، وتلقيها بالقبول والتصديق، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.».

انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق