الأحد، 16 فبراير 2020

﴿ٱلرَّحۡمَـٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾

الاستواء على العرش يتضمن معنىً زائدًا على العُلُوّ المطلق، وإلّا لما اختص العرش بذلك لأن الله -سبحانه- له العلوّ مطلقًا على كل شيء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول صفحـ٣٩٥ـة:-
«...الاستواء علوٌّ خاص، فكلُّ مستوٍ على شيءٍ [فهو] عالٍ عليه، وليس كلُّ عالٍ على شيء مستويًا عليه.
ولهذا لا يقال لكل ما كان عاليا على غيره: إنه مستو عليه واستوى عليه، ولكن كل ما قيل فيه: إنه استوى على غيره؛ فإنه عالٍ عليه. والذي أخبر الله أنه كان بعد خلق السموات والأرض "الاستواء" لا مطلق العلو، مع أنه يجوز أنه كان مستويا عليه قبل خلق السموات والأرض لمّا كان عرشه على الماء، ثم لما خلق هذا العالم كان عاليا عليه ولم يكن مستويا عليه، فلما خلق هذا العالم استوى عليه، فالأصل أن علوه على المخلوقات وصف لازم له، كما أن عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فِعلٌ يفعله -سبحانه وتعالى- بمشيئته وقدرته؛ ولهذا قال فيه: {ثم استوى} ولهذا كان الاستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر.
وأما علوه على المخلوقات فهو عند أئمة أهل الإثبات من الصفات العقلية المعلومة بالعقل مع السمع، وهذا اختيار أبي محمد بن كلاب وغيره، وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى، وقول جماهير أهل السنة والحديث ونظار المثبتة.»

أقول:-
    لا شك أن العقل هنا يحار في تصور الاستواء على العرش كما أنه يحار في تصور ذات الرب -سبحانه- ومايقوم بها من أفعال لازمة غير متعدية.

    وقد نـبّـه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن النصوص والأخبار قد تأتي بمحارات للعقول ولكنها لا تأتي بمُحالات وممتنعات. 

 أي: لا تأتي بأمر مُحال وممتنع في صريح العقل إلا أن يكون الخبر ضعيفا أو موضوعا أو تكون دلالته محتملة وغير ظاهرة، ولكن العقول قد تُمتحن بما تحار في حقيقته وواقعه.
فالمُحال كالإخبار عن شيء واحد بأنه موجود ومعدوم في وقت واحد، أو لاموجود ولامعدوم، أما أن يتخذ ملك الملوك عرشا عظيما يليق بعزه وملكه ويظهر فيه من حسن صنعه وعظم ملكوته وعجيب قدرته ما لا يظهر في مخلوق آخر، ويكون منتهىٰ عباده المقربين يحفون به ويسجدون تحته ولايطمعون بموضع أقرب إلى الرحمن منه، إذ العرش أخص مخلوق بربه اختصه واصطنعه لنفسه غيرَ محتاج إليه ثم ثَـبَـتَ واستقَـرّ مُـتـمَـكّـنـًا عليه كما شاء-سبحانه-  وهذا مَحار للعقل، أي يحار العقل فيه عند تخـيّـله لقصوره وضعفه أصلا عن تصوّر ذات الرحمن المتفرد عن شبيهٍ يُعتبَر به ويُقاس ويُبنَىٰ التصور عليه. فالله وعرشه واستواءه غيب مطلق لا سبيل إلى تصوّر كيفيةٍ فيه، إلا أننا نُـنَـزّه الله عن أن يخاطب عباده بما لايدركون له معنىً ظاهرا يُـفـهَم ويترجَم ويُتدبَّر: {أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَاۤ}
وفي هذا ابتلاء وامتحان لأذهان وعقول الأذكياء حتى يسقط ويفتضح أهل الغرور والعُجب بعقولهم واجتهادهم، وحتى يظهر فضل أهل الخضوع والتسليم للعزيز العليم سبحانه وتعالى، فإن إعجاب البشر بعقولهم وطغيانهم واغترارهم بظنونهم داء قديم، فلابد من ترويض عقولهم وتذليلها وتعبيدها حتى يتواضع ابن آدم ويعترف بعجزه عن معارضة وحي ربه، فإن للأذهان والعقول عبوديةً لاتتحقق لكثير من الناس ولو اجتهدوا في العبادات البدنية المعروفة، فشاء الله أن يمتحن عقولنا وأفئدتنا بمثل هذه الأخبار ليميز العقل الخبيث من الـطـيـّـب الذي يعرف قدره فيؤمن ويسلّم فيستحق رحمة ربه، وفي هذا تربية لعقل المؤمن حتى يتأهل لتلقي أخبار الغيب عن الله والدار الآخرة كما وقع لأحد الصحابة لما نزلت ﴿ٱلَّذِینَ یُحۡشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُو۟لَــٰۤئِكَ شَرࣱّ مَّكَانࣰا وَأَضَلُّ سَبِیلࣰا﴾ ففِي الصَّحِيحِ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: "إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يُمشِيَه عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

آمنّا بربّ يفعل ما يشاء !
﴿لَا یُسۡـَٔلُ عَمَّا یَفۡعَلُ وَهُمۡ یُسۡـَٔلُونَ﴾

اللهم إيمانًا كإيمان أبي رزين، آمـيــــن...
عن أبي رزين العقيلي قال: قال رسول الله ﷺ : «ضَحِكَ رَبُّنا عزَّ وجلَّ من قُنُوطِ عبادِهِ وقُربِ غِيَرِهِ» فقال أبو رزينٍ: "أَوَيَضْحَكُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ؟" قالﷺ : «نَعَمْ»، فقال: "لَنْ نَعْدَمَ من رَبٍّ يَضْحَكُ خيرًا".
قال الألباني في السلسلة الصحيحة [٢٨١٠] :  "حسن بجموع الطرق".
*قلت: "غِيَر" على وزن: "عِبَر" و "عِنَب" ، والمراد بغِيَر الله ما يحدثه -سبحانه- من أحوال متغَيّرة.

فأبو رزين بسلامة فطرته وصفاء عقله وفطنته انتفع بهذا الخبر عن الله بعد أن تثبّت منه، ولو تفكّر في الكيفية لتحيّر  وما انتفع بشيء.

فالخبر عن استواء الرحمٰن على عرشه لا يُبحث عن واقعه وكيفيته، ولكن يُتفكر في أثره وفائدته، وهذا باب واسع ومشرع رحب فسيح وهو من التَدَبُّر الذي من أجله نزل القرآن ! 

ونحن نشهد أن القرار والوقار من كمال المُلْك وجلالة القدر أن يقضيَ الله أمور الخلق أجمعين، يحي ويميت، ويرزق ويُغيث، ويعاقب وينتقم، ويفعل ما يشاء -سبحانه- لايحتاج إلى الحركة والتنقل في ذلك فهذا أدلّ على الجلال والكبرياء والعظمة وأدعىٰ للخشية والإكبار والهيبة.

وهذا المعنىٰ أمرٌ فطري عامّ لاتختص به أمة من الأمم، فكان من ملوك البشر ما كان من المبالغة في تفخيم شأنهم وتثبيت هيبتهم باتخاذ القصور المشيدة والعروش المزخرفة العظيمة وكثرة الأعوان والجنود ولو قلّت الحاجة لهم.

ولقد كان سليمان-عليه السلام- نبيّا ملِكا، بل أوتي من الملك ما لاينبغي لأحد من بعده، وكان من أظهر معالم هذا الملك العظيم ذلك الصرح العجيب الذي بهَرَ الملكة بلقيس حتى أسلمت مع سليمان لله رب العالمين ! 
وكان من شواهد عظمة ملكه -عليه السلام- أنه أُحضِر إليه عرشها وهو في تمام وقاره وأُبّـهَـة مُلكه لم يتحرك هو في ذلك ولم يلتفت ببصره إلا والعرش بين يديه.

أفلا يكون واهب هذه المعاني أحقّ بها بل بأعظم وأجلّ منها كيفما شاء سبحانه وتعالى؟ ... بلىٰ والله !  {وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ}

وهذا شأن كل صفات الله -سبحانه- وأفعاله لايمكن أن يُعقل لها معنى ولا فائدة إلا في ضوء المحسوس المشاهَد في غير الكيفية الواقعة فِعلًا ولكن في أصل المعنىٰ كما أن صفة الوجود والحياة لها معنىً واحدٌ في أصله ولكن إذا أُضيف إلى الخالق والمخلوق اختلف وتباين وتفاوت أشدَّ ما يكون من التفاوت والتباين والاختلاف !  {لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱۖ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ}.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق