الأحد، 16 فبراير 2020

﴿ٱلرَّحۡمَـٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾

الاستواء على العرش يتضمن معنىً زائدًا على العُلُوّ المطلق، وإلّا لما اختص العرش بذلك لأن الله -سبحانه- له العلوّ مطلقًا على كل شيء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول صفحـ٣٩٥ـة:-
«...الاستواء علوٌّ خاص، فكلُّ مستوٍ على شيءٍ [فهو] عالٍ عليه، وليس كلُّ عالٍ على شيء مستويًا عليه.
ولهذا لا يقال لكل ما كان عاليا على غيره: إنه مستو عليه واستوى عليه، ولكن كل ما قيل فيه: إنه استوى على غيره؛ فإنه عالٍ عليه. والذي أخبر الله أنه كان بعد خلق السموات والأرض "الاستواء" لا مطلق العلو، مع أنه يجوز أنه كان مستويا عليه قبل خلق السموات والأرض لمّا كان عرشه على الماء، ثم لما خلق هذا العالم كان عاليا عليه ولم يكن مستويا عليه، فلما خلق هذا العالم استوى عليه، فالأصل أن علوه على المخلوقات وصف لازم له، كما أن عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فِعلٌ يفعله -سبحانه وتعالى- بمشيئته وقدرته؛ ولهذا قال فيه: {ثم استوى} ولهذا كان الاستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر.
وأما علوه على المخلوقات فهو عند أئمة أهل الإثبات من الصفات العقلية المعلومة بالعقل مع السمع، وهذا اختيار أبي محمد بن كلاب وغيره، وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى، وقول جماهير أهل السنة والحديث ونظار المثبتة.»

أقول:-
    لا شك أن العقل هنا يحار في تصور الاستواء على العرش كما أنه يحار في تصور ذات الرب -سبحانه- ومايقوم بها من أفعال لازمة غير متعدية.

    وقد نـبّـه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن النصوص والأخبار قد تأتي بمحارات للعقول ولكنها لا تأتي بمُحالات وممتنعات. 

 أي: لا تأتي بأمر مُحال وممتنع في صريح العقل إلا أن يكون الخبر ضعيفا أو موضوعا أو تكون دلالته محتملة وغير ظاهرة، ولكن العقول قد تُمتحن بما تحار في حقيقته وواقعه.
فالمُحال كالإخبار عن شيء واحد بأنه موجود ومعدوم في وقت واحد، أو لاموجود ولامعدوم، أما أن يتخذ ملك الملوك عرشا عظيما يليق بعزه وملكه ويظهر فيه من حسن صنعه وعظم ملكوته وعجيب قدرته ما لا يظهر في مخلوق آخر، ويكون منتهىٰ عباده المقربين يحفون به ويسجدون تحته ولايطمعون بموضع أقرب إلى الرحمن منه، إذ العرش أخص مخلوق بربه اختصه واصطنعه لنفسه غيرَ محتاج إليه ثم ثَـبَـتَ واستقَـرّ مُـتـمَـكّـنـًا عليه كما شاء-سبحانه-  وهذا مَحار للعقل، أي يحار العقل فيه عند تخـيّـله لقصوره وضعفه أصلا عن تصوّر ذات الرحمن المتفرد عن شبيهٍ يُعتبَر به ويُقاس ويُبنَىٰ التصور عليه. فالله وعرشه واستواءه غيب مطلق لا سبيل إلى تصوّر كيفيةٍ فيه، إلا أننا نُـنَـزّه الله عن أن يخاطب عباده بما لايدركون له معنىً ظاهرا يُـفـهَم ويترجَم ويُتدبَّر: {أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَاۤ}
وفي هذا ابتلاء وامتحان لأذهان وعقول الأذكياء حتى يسقط ويفتضح أهل الغرور والعُجب بعقولهم واجتهادهم، وحتى يظهر فضل أهل الخضوع والتسليم للعزيز العليم سبحانه وتعالى، فإن إعجاب البشر بعقولهم وطغيانهم واغترارهم بظنونهم داء قديم، فلابد من ترويض عقولهم وتذليلها وتعبيدها حتى يتواضع ابن آدم ويعترف بعجزه عن معارضة وحي ربه، فإن للأذهان والعقول عبوديةً لاتتحقق لكثير من الناس ولو اجتهدوا في العبادات البدنية المعروفة، فشاء الله أن يمتحن عقولنا وأفئدتنا بمثل هذه الأخبار ليميز العقل الخبيث من الـطـيـّـب الذي يعرف قدره فيؤمن ويسلّم فيستحق رحمة ربه، وفي هذا تربية لعقل المؤمن حتى يتأهل لتلقي أخبار الغيب عن الله والدار الآخرة كما وقع لأحد الصحابة لما نزلت ﴿ٱلَّذِینَ یُحۡشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُو۟لَــٰۤئِكَ شَرࣱّ مَّكَانࣰا وَأَضَلُّ سَبِیلࣰا﴾ ففِي الصَّحِيحِ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: "إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يُمشِيَه عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

آمنّا بربّ يفعل ما يشاء !
﴿لَا یُسۡـَٔلُ عَمَّا یَفۡعَلُ وَهُمۡ یُسۡـَٔلُونَ﴾

اللهم إيمانًا كإيمان أبي رزين، آمـيــــن...
عن أبي رزين العقيلي قال: قال رسول الله ﷺ : «ضَحِكَ رَبُّنا عزَّ وجلَّ من قُنُوطِ عبادِهِ وقُربِ غِيَرِهِ» فقال أبو رزينٍ: "أَوَيَضْحَكُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ؟" قالﷺ : «نَعَمْ»، فقال: "لَنْ نَعْدَمَ من رَبٍّ يَضْحَكُ خيرًا".
قال الألباني في السلسلة الصحيحة [٢٨١٠] :  "حسن بجموع الطرق".
*قلت: "غِيَر" على وزن: "عِبَر" و "عِنَب" ، والمراد بغِيَر الله ما يحدثه -سبحانه- من أحوال متغَيّرة.

فأبو رزين بسلامة فطرته وصفاء عقله وفطنته انتفع بهذا الخبر عن الله بعد أن تثبّت منه، ولو تفكّر في الكيفية لتحيّر  وما انتفع بشيء.

فالخبر عن استواء الرحمٰن على عرشه لا يُبحث عن واقعه وكيفيته، ولكن يُتفكر في أثره وفائدته، وهذا باب واسع ومشرع رحب فسيح وهو من التَدَبُّر الذي من أجله نزل القرآن ! 

ونحن نشهد أن القرار والوقار من كمال المُلْك وجلالة القدر أن يقضيَ الله أمور الخلق أجمعين، يحي ويميت، ويرزق ويُغيث، ويعاقب وينتقم، ويفعل ما يشاء -سبحانه- لايحتاج إلى الحركة والتنقل في ذلك فهذا أدلّ على الجلال والكبرياء والعظمة وأدعىٰ للخشية والإكبار والهيبة.

وهذا المعنىٰ أمرٌ فطري عامّ لاتختص به أمة من الأمم، فكان من ملوك البشر ما كان من المبالغة في تفخيم شأنهم وتثبيت هيبتهم باتخاذ القصور المشيدة والعروش المزخرفة العظيمة وكثرة الأعوان والجنود ولو قلّت الحاجة لهم.

ولقد كان سليمان-عليه السلام- نبيّا ملِكا، بل أوتي من الملك ما لاينبغي لأحد من بعده، وكان من أظهر معالم هذا الملك العظيم ذلك الصرح العجيب الذي بهَرَ الملكة بلقيس حتى أسلمت مع سليمان لله رب العالمين ! 
وكان من شواهد عظمة ملكه -عليه السلام- أنه أُحضِر إليه عرشها وهو في تمام وقاره وأُبّـهَـة مُلكه لم يتحرك هو في ذلك ولم يلتفت ببصره إلا والعرش بين يديه.

أفلا يكون واهب هذه المعاني أحقّ بها بل بأعظم وأجلّ منها كيفما شاء سبحانه وتعالى؟ ... بلىٰ والله !  {وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ}

وهذا شأن كل صفات الله -سبحانه- وأفعاله لايمكن أن يُعقل لها معنى ولا فائدة إلا في ضوء المحسوس المشاهَد في غير الكيفية الواقعة فِعلًا ولكن في أصل المعنىٰ كما أن صفة الوجود والحياة لها معنىً واحدٌ في أصله ولكن إذا أُضيف إلى الخالق والمخلوق اختلف وتباين وتفاوت أشدَّ ما يكون من التفاوت والتباين والاختلاف !  {لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱۖ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ}.

الجمعة، 14 فبراير 2020

النزول الإلٰهي !

قال رسول الله ﷺ : «يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يقولُ: مَن يَدْعُونِي فأسْتَجِيبَ له، مَن يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ له.»

  أقول:- 

★ نزول الله -تعالى- إلى السماء الدنيا هو اقترابه بذاته من خلقه كيف يشاء -سبحانه- وهو نزولٌ ذاتيٌّ حقيقةً لأن الله له العلوّ المطلق على خلقه فلا يكون اقترابه منهم إلا نزولا، فهو إذن فرعٌ، والإيمان الصحيح بصفة العلوّ أصلٌ،  فباستقامته يستقيم وبعوجه يعوجّ !

★ ولا يلزم من ذلك خلوّ العرش منه -سبحانه- ولا أن يعلوَه -سبحانه- شيءٌ من مخلوقاته فهذه الصفة تابعة لذاته التي لا تُقاس بذوات المخلوقين ولايجري عليها من السنن والقوانين الكونية ما يجري على المخلوقين، فلايصح بحالٍ قياسُ نزوله بنزول المخلوقين، لأن الله العـظـيـم الكـبـيـر القديـر لا يُعجزه أن يدنو ويقرب من خلقه دون أن يفقد استواءه على العرش وفوقيّته وعلوّه على الخلق.

فأفعال المخلوق وما يلزمها ويصحبها وما يجوز عليه وما لايجوز كل ذلك من خصائص المخلوق الضعيف المقهور المحكوم بأحكام الله الكونية التي وُجدت معه قدَرا مقدورا لا يفارقه:{یَـٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُوا۟ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُوا۟ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَـٰنࣲ}
أما الواحد القهار فلا يمكن أن يحدّه ويُـقـيّـده ما أبدعه ووضعه هو-سبحانه- من حدود وقيود كونية خاصة بأجساد المخلوقات وذواتهم، وقد أبطل الله بعض هذه السنن لبعض أنبيائه كإبراهيم إذ صارت النار بردا وسلاما عليه.

وهذا هو معنى قول بعض السلف حين سُئل عن النزول: «آمنتُ برب يفعل ما يشاء». وقال حماد بن زيد: «إن الله على عرشه، ولكن يقرب من خلقه كيف شاء.»
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول:-
«..وهذا الباب ـ ونحوه ـ إنما اشتبه على كثير من الناس؛ لأنهم صاروا يظنون أن ما وُصِف الله ـ عز وجل ـ به من جنس ما توصف به أجسامهم، فيرون ذلك يستلزم الجمع بين الضدين؛ فإن كونه فوق العرش مع نزوله يمتنع في مثل أجسامهم.»

وقال -رحمه الله-عن أهل الحديث :-
«وجمهورهم على أنه لا يخلو منه العرش، وهو المأثور عن الأئمة المعروفين بالسنة، ولم ينقل عن أحد منهم بإسناد صحيح ولا ضعيف أن العرش يخلو منه.»
    وقال -رحمه الله- أيضا:-
«...وهو الصواب وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها: أنه لا يزال فوق العرش ولا يخلو العرش منه مع دنوّه ونزوله إلى السماء الدنيا ولا يكون العرشُ فوقَه. وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزَّه عن ذلك»
وقال أيضا:-
«...وكذلك نزوله بالليل...وهذا كما أن حسابه لعباده يوم القيامة يحاسبهم كلهم في ساعة واحدة، وكلٌ منهم يخلو به...فيقرره بذنوبه، وذلك المحاسَب لا يرىٰ أنه-سبحانه- يحاسِب غيرَه...وقال رجل لابن عباس: كيف يحاسب الله العباد في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة...وكذلك سمعه لكلامهم يسمع كلامهم كله مع اختلاف لغاتهم وتفنن حاجاتهم، يسمع دعاءهم سمع إجابة، ويسمع كل ما يقولونه سمع علم وإحاطة لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرّم بإلحاح المـلحـّـيـن، فإنه -سبحانه- هو الذي خلق هذا كله، وهو الذي يرزق هذا كله وهو الذي يوصل الغذاء إلى كل جزء جزء من البدن على مقداره وصفته المناسبة له، وكذلك من الزرع.
وكرسيه قد وسع السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما، فإذا كان لا يؤوده خلقه ورزقه على هذه التفاصيل، فكيف يؤوده العلم بذلك، أو سمع كلامهم، أو رؤية أفعالهم، أو إجابة دعائهم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ﴿وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِیعࣰا قَبۡضَتُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ مَطۡوِیَّـٰتُۢ بِیَمِینِهِۦۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾
وهذه الآية مما تبين خطأ هؤلاء ... وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه، ويقول: أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الأرض».
 فإذا كان -سبحانه- يطوي السموات كلها بيمينه وهذا قدرها عنده، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم"، وهو -سبحانه- بـَـيـَّـنَ لنا من عظمته بقدر ما نعقله...وقد قال تعالى: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَهُوَ یُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَـٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ﴾، قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، ثنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَهُوَ یُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَـٰرَ﴾ قال: «لو أن الجن والإنس والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا»، فمن هذه عظمته كيف يحصره مخلوق من المخلوقات؟! سماء أو غير سماء حتى يقال: إنه إذا نزل إلى السماء الدنيا صار العرشُ فوقه أو يصير شيءٌ من المخلوقات يحصره ويحيط به سبحانه وتعالى.
فإذا قال القائل: هو قادر على ما يشاء، قيل: فقل: هو قادر على أن ينزل -سبحانه وتعالىٰ- وهو فوق عرشه، وإذا استدللت بمطلق القدرة والعظمة من غير تمييز فما كان أبلغ في القدرة والعظمة فهو أولىٰ بأن يوصف به مما ليس كذلك...[فكونه] ينزل مع بقاء عظمته وعلوّه على العرش أبلغ في القدرة والعظمة وهو الذي فيه موافقة الشرع والعقل.»

قلتُ:-
    لا شك أن إثبات النزول للذات يتضمن بالضرورة إثبات نوع من (الحركة)، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في آخر كتابه[شرح حديث النزول] متحدثا عن صفة (الحركة):-
«...وأما الذين أثبتوها بالمعنى العام حتى يدخل في ذلك قيام الأمور والأفعال الاختيارية بذاته، فهذا قول طوائف ... كأبي الحسين البصري، وهو اختيار أبى عبدالله بن الخطيب الرازي وغيره من النظار، وذكر طائفة: أن هذا القول لازم لجميع الطوائف...
وكثير من أهل الحديث والسنة يقول: المعنى صحيح، لكن لا يُطلق هذا اللفظ لعدم مجيء الأثر به، كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر وغيره في كلامهم على حديث النزول.
والقول المشهور عن السلف عند أهل السنة والحديث: هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة من أنه يأتي وينزل، وغير ذلك من الأفعال اللازمة.
قال أبو عمرو الطلمنكي: أجمعوا ـ يعني أهل السنة والجماعة ـ على أن الله يأتي يوم القيامة والملائكة صفا صفا لحساب الأمم وعرضها كما يشاء وكيف يشاء، قال تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملآئكة وقضي الأمر} وقال تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا}.
قال: وأجمعوا على أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به الآثار كيف شاء، لا يحدون في ذلك شيئا، ثم روى بإسناده عن محمد بن وضاح  قال: حدثنا زهير بن عباد قال: كل من أدركت من المشايخ: مالك بن أنس وعبدالله بن المبارك ووكيع بن الجراح يقولون: «النزول حق»، قال ابن وضاح: سألت يوسف بن عدي عن النزول فقال: «نعم، أقرّ به ولا نحد فيه حدّا». قال: وسألت يحيى بن معين عن النزول فقال: «نعم، أقر به، ولا أحد فيه حدا.»
والقول الثالث: الإمساك عن النفي والإثبات، وهو اختيار كثير من أهل الحديث والفقهاء والصوفية، كابن بطة وغيره. وهؤلاء فيهم من يعرض بقلبه عن تقدير أحد الأمرين، ومنهم من يميل بقلبه إلى أحدهما، ولكن لا يتكلم لا بنفي ولا بإثبات. والذي يجب القطع به أن الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه. فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعا، كمن قال: إنه ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار، كقول من يقول: إنه يخلو منه العرش، فيكون نزوله تفريغا لمكان وشغلا لآخر، فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه كما تقدم، وهذا هو الذي تقوم على نفيه وتنزيه الرب عنه الأدلة الشرعية والعقلية؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- أخبر أنه الأعلى، وقال: {سبح اسم ربك الأعلى} … وإن كان لفظ العلو يقتضي علو ذاته فوق العرش فهو -سبحانه- الأعلى من كل شيء، كما أنه أكبر من كل شيء. فلو صار تحت شيء من العالم لكان بعض مخلوقاته أعلى منه ولم يكن هو الأعلى، وهذا خلاف ما وصف به نفسه...
وكذلك سائر النصوص تبين وصفه بالعلو على عرشه في هذا الزمان، فعُلِم أن الرب -سبحانه- لم يزل عاليا على عرشه، فلو كان في نصف الزمان أو كله تحت العرش أو تحت بعض المخلوقات لكان هذا مناقضا لذلك.
وأيضا، فقد ثبت في الحديث الصحيح ـ الذي رواه مسلم وغيره ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "، وهذا نص في أن الله ليس فوقه شيء، وكونُه الظاهر صفةٌ لازمة له مثل كونه الأول والآخر، وكذلك الباطن، فلا يزال ظاهرا ليس فوقه شيء، ولا يزال باطنا ليس دونه شيء. [أي: لايحجبه شيءٌ عن شيءٍ من خلقه كمالًا في علمه وقدرته]
...وهو مما يبين أن الله لا يزال عاليا على المخلوقات مع ظهوره وبطونه وفي حال نزوله إلى السماء الدنيا.
وأيضا، فقد قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} فمن هذه عظمته يمتنع أن يحصره شيء من مخلوقاته، وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية أحاديث صحيحة اتفق أهل العلم بالحديث على صحتها، وتلقيها بالقبول والتصديق، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.».

انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الأربعاء، 21 أغسطس 2019

حديث التردد الإلهي !

ثبت عن النبي ﷺ: "إنَّ الله قالَ: "مَن عادىٰ لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ." وفي رواية: "ولابد له منه". أي: لابد أن يموت.
قلت:-
 الحديث شاهد قوي لما نبّه إليه ابن تيمية من أن الشرع جاء في صفات الله تعالى بالإثبات المفصّل والنفي المُجمل. لأن مجرد النفي والتنزيه لا يُـكَـوِّن تصورا عن شيء غائب عن الحس، والإطناب والتفصيل في التنزيه لا حاجة إليه لأنه يتقرر مفهوما عند التفصيل في صفات الجلال  والجمال لله سبحانه وتعالى؛ فإثبات القوّة والغنىٰ نفيٌ للضعف والافتقار وهكذا، وفي الاشتغال بالنفي المفصّل تضييع للمقصود الأعظم للوحي من تدبر ما جاء به من إثبات مُـفَصّل، وهذا كيد عظيم من الشيطان الرجيم.
 وما كان متضمنا لمعنى لا يجوز على الله فإنا لا نُثبت لله منه إلا ما يناسب كمالَه وتفرّده عن خلقه سبحانه وتعالى. كما أن صفة الغضب والفرح وأنه سبحانه يَعجَب ونحوها من الصفات لايثبت لله منها ما يختص به المخلوق مما لا يليق بالخالق سبحانه. فالمخلوق يغشاه الغضبُ بغير اختيار منه ويُضعف حكمته وبصيرته فيحمله أحيانا على ما لايحسن من قول أو فعل، أما الخالق سبحانه فهو منزّه بالضرورة عن هذه العوارض. 
# فكذلك التردد في الحديث راجع إلى محبة الله العظيمة لعبده المؤمن وهذه المحبة من الله محبة قوية كاملة تليق به سبحانه، والموت شيء فظيع ينزل بالعبد وسكراته شديدة وآثاره عظيمة حتى يكون دفنه في التراب هو غاية إكرامه والإحسان إليه، فهل من كمال الله في حبه لأولياءه أن يكتب هذا عليهم بلا كراهية عظيمة لكتابته عليهم. 

إن الوالد المحب لولده حبا صادقا لو اقتضت الحكمة والمصلحة أن يضربه تأديبا ومنعا من التمادي فيما يضره فلابد أنه يكره هذا الضرب أشد الكراهية وتنزع به نفسه أن يصفح عنه ولكنه يمضي فيما توجبه الحكمة والنصح للولد وهو كُره له، ومن حبه لولده لم يهن عليه إيلامه حتى يكاد في كل مرة أن لا يفعل وهذا هو أصل التردد حقيقةً أما لو أنه أخذ العصا ثم غلبته الرحمة فوضعها فهذا أثر التردد الذي في قلبه وليس هو أصل التردد، فاضطرابه في الفعل هو النقص الذي يُنزّه عنه الخالق سبحانه، أما أصل التردد -الذي يقوم في النفس- فليس في إثباته للخالق نقص بل هو كمال عظيم في حبه سبحانه لأولياءه حتى اقتضى ذلك أن يكتب الله عليهم الموت وهو يحب أن لا يكتبه فهذا هو التردد الموصوف به كمالاً في محبته لأوليائه وكمالا في كراهيته سبحانه لما يسوؤهم.

ونقْصٌ في ذلك الوالد لو لم يتصف بأصل التردد-القائم في النفس- عند ضربه لولده لأن سببه ضعف محبة الولد، فصار يضربه ضرب العدو لعدوه، والسلامة من هذا النقص كمال يُمدح ، والله أولى بهذا الكمال كما يليق به سبحانه

ويُنفى عن الله سبحانه تردد المخلوقين -الذي يتضمّن غالبا اضطرابا في الفعل وتحيـّـرا- لأنه سبحانه لكمال علمه وقدرته وكمال حكمته وعزته لم يضطرب ولم يتحيّر عندما كتب الموت على أولياءه ولكنه سبحانه كره هذا السوء لأولياءه حين كتبه عليهم أشد الكره وأعظمه حتى كاد ألّا يكتبه عليهم، وهذا من كمال محبته لأوليائه المؤمنين.
ولله من الحكمة والعلم ما اقتضى كون الموت سنّة عامّة على خلقه في الدنيا، فأمضاه على أولياءه وأعدائه على السواء. 
في مجموع فتاوى ابن تيمية [483/10] ومابعدها:-
«.. فهو سبحانه لما كره مساءة عبده المؤمن الذي يكره الموت كان هذا مقتضيا أن يكره إماتته مع أنه يريد إماتته؛ لما له في ذلك من الحكمة سبحانه وتعالى.»

ويزول الإشكال إذا علمنا أن إرادة الله المتعلقة بعموم الموجودات إيجادا وتقديرا لا يلزم منها أن تكون محبوبة لله سبحانه من كل وجه، ولكن الدنيا من أصلها دار تمحيص وبلاء وامتحان وليست أصلا دار كمال واستقرار وسلامة.

 في مجموع الفتاوى لابن تيمية[129/18] :-
وسئل شيخ الإسلام عن قوله ﷺ فيما يروي عن ربه عز وجل: "وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته"، ما معنى تردد الله؟

فأجاب: هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا: إن الله لايوصف بالتردد وإنما يتردد من لايعلم عواقب الأمور والله أعلم بالعواقب. وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد. والتحقيق: أن كلام رسوله ﷺ حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله ﷺ ولا أنصحَ للأمة منه ولا أفصحَ ولا أحسنَ بيانا منه فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوأهم أدبا بل يجب تأديبه وتعزيره ويجب أن يصان كلام رسول الله ﷺ عن الظنون الباطلة والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ثم هذا باطل فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحَـب من وجه ويُكرَه من وجه كما قيل:-
 الشيب كرهٌ وكرهٌ أن أفارقه
              فاعجب لشيءٍ على البغضاء محبوبُ 
      وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: "حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره" وقال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ} الآية. ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث فإنه قال: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبا للحق محبا له يتقرب إليه أوّلًا بالفرائض وهو يحبها ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة بحيث يحب ما يحبه محبوبه ويكره ما يكرهه محبوبه والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه. والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه وهو مع ذلك كارهٌ لمساءة عبده وهي المساءة التي تحصل له بالموت فصار الموت مرادا للحق من وجه مكروها له من وجه وهذا حقيقة التردد وهو: أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته. 
    ثم قال بعد كلام سبق ذكره: ومن هذا الباب ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان فإن الله تعالى يبغض ذلك ويسخطه ويكرهه وينهى عنه وهو سبحانه قد قدره وقضاه وشاءه بإرادته الكونية وإن لم يرده بإرادة دينيةٍ هذا هو فصل الخطاب فيما تنازع فيه الناس: من أنه سبحانه هل يأمر بما لا يريده؟ فالمشهور عند متكلمة أهل الإثبات ومن وافقهم من الفقهاء أنه يأمر بما لا يريده، وقالت القدرية والمعتزلة وغيرهم: إنه لا يأمر إلا بما يريده. والتحقيق: أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة دينية شرعية وإرادة كونية قدرية: فالأول كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقوله تعالى {ولكن يريد ليطهركم} وقوله تعالى {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} إلى قوله: {والله يريد أن يتوب عليكم} فإن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضى وهي الإرادة الدينية. وإليه الإشارة بقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} . وأما الإرادة الكونية القدرية فمثل قوله تعالى {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} ومثل قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فجميع الكائنات داخلة في هذه الإرادة والمشيئة لا يخرج عنها خير ولا شر ولا عرف ولا نكر وهذه الإرادة والمشيئة تتناول ما لا يتناوله الأمر الشرعي وأما الإرادة الدينية فهي مطابقة للأمر الشرعي لا يختلفان، وهذا التقسيم الوارد في اسم الإرادة يرد مثله في اسم الأمر والكلمات والحكم والقضاء والكتاب والبعث والإرسال ونحوه؛ فإن هذا كله ينقسم إلى كوني قدري وإلى ديني شرعي. والكلمات الكونية هي: التي لا يخرج عنها بر ولا فاجر وهي التي استعان بها النبي ﷺ في قوله: "أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر" قال الله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} . وأما الدينية فهي: الكتب المنزلة التي قال فيها النبي ﷺ "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وقال تعالى: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} . وكذلك الأمر الديني كقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} والكوني: {إنما أمره إذا أراد شيئا} . والبعث الديني كقوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} والبعث الكوني: {بعثنا عليكم عبادا لنا}. والإرسال الديني كقوله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} . والكوني: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا} . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. فما يقع في الوجود من المنكرات هي مرادة لله إرادة كونية داخلة في كلماته التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وهو سبحانه مع ذلك لم يردها إرادة دينية ولا هي موافقة لكلماته الدينية ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء فصارت له من وجه مكروهة. ولكن هذه ليست بمنزلة قبض المؤمن فإن ذلك يكرهه لكراهة مساءة المؤمن وهو يريده لما سبق في قضائه له بالموت فلا بد منه، وإرادته لعبده المؤمن خير له ورحمة به؛ فإنه قد ثبت في الصحيح: "أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" . وأما المنكرات فإنه يبغضها ويكرهها؛ فليس لها عاقبة محمودة من هذه الجهة إلا أن يتوبوا منها فـيُـرحموا بالتوبة وإن كانت التوبة لا بد أن تكون مسبوقة بمعصية؛ ولهذا يجاب عن قضاء المعاصي على المؤمن بجوابين: أحدهما: أن هذا الحديث لم يتناولها وإنما تناول المصائب. والثاني: أنه إذا تاب منها كان ما تعقبه التوبة خيرا فإن التوبة حسنة وهي من أحب الحسنات إلى الله والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أشد ما يمكن أن يكون من الفرح وأما المعاصي التي لا يتاب منها فهي شرعلى صاحبها، والله سبحانه قدر كل شيء وقضاه؛ لما له في ذلك من الحكمة كما قال سبحانه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ} وقال تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} فما من مخلوق إلا ولله فيه حكمة. ولكن هذا بحر واسع قد بسطناه في مواضع والمقصود هنا: التنبيه على أن الشيء المعين يكون محبوبا من وجه مكروها من وجه وأن هذا حقيقة التردد وكما أن هذا في الأفعال فهو في الأشخاص. والله أعلم.» 
انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات


خلق آدم على صورة الرحمٰن !

عن أبي هريرة: قال النبي ﷺ: «إذا ضرَبَ أحدُكم فليَجتَنِبِ الوَجْهَ، ولايَقُلْ: قَبَّحَ اللهُ وَجهَكَ، ووَجْهَ مَن أشبَهَ وَجهَكَ؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ خلَقَ آدمَ على صورَتِه.»

قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند ٩٦٠٤  :  "إسناده قوي" 


# لقد كَره الإمام مالك إذاعة هذا الحديث بتمامه وأحبَّ الاكتفاء بأول الحديث لحاجة الناس إليه وترتب عملٍ عليه لينتهوا عما نُهوا عنه من ضرب الوجه وتقبيحه، واختارَ أن يُخزَن عن العامة باقي الحديث، ولايحسن هذا الكتمان لولا خشية الفتنة وأن يُساء فهْمُ الحديث ويُظن بالله ما لاينبغي. وهذا الحديث يوهم كثيرا من الناس أمرا عظيما لاينبغي إثبات مثله بدلالة ظنّية محتملة، وهي دلالة أنكرها ونفاها غير واحد من أئمة الإسلام.

      فحديث الصورة إذن من المتشابه الذي يجب فهمه في ضوء المحكم:﴿لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦشَیۡءࣱ…﴾ ،، وهذه الآية هي أصل الأصول المحكمات في باب الصفات. 

فلايمكن لهذا الحديث أن يكون من أحاديث الصفات أصلا فهو كقوله تعالى: ﴿فَأَیۡنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجۡهُ اللهِ﴾ فلاريب أن لله وجهًا صفة ذات إلا أن هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا، كذلك لاريب أن لله صورة ولكن الصورة في حديث الباب ليست صفةً لذات الباري سبحانه، ولكن الأئمة رووه وسكتوا عن تفسيره حذرا من الزلل والقول على الله بغير علم حتى جاء ابن خزيمة ومن قبله أبوثور فاجتهدا في تفسيره تخليصا للحق من أوهام الخلق، فليس هذا من التحريف ولا من التأويل المذموم في شيء، بل هذا اجتهاد يُمدح ويفخر به مخالفةً للذين عابهم الله بأنهم أمّيّون لايعلمون الكتاب إلا أماني غاية علمهم تلاوة اللفظ دون فهم وتفقه في معانيه، لاسيما وأن أئمة الإسلام الذين رووا هذا الحديث وأمسكوا عن الخوض في معناه إنما آثروا السلامة فسكتوا. 


ولقد أثبتنا لله حقيقة النزول بذاته إلى سماء الدنيا مع تنزيهه -سبحانه- عن اللوازم التي تلزم المخلوق إذا نزل بذاته مِن علۡوٍ إلىٰ سفۡل، لأننا لانملك إلا التسليم لما ثبت بدلالة ظاهرة غير محتملة قد أجمع عليها الأئمة الأعلام ولم ينازع فيها إلا المبتدعة أهل الأهواء والضلالات، أما حديث الصورة فإن دلالته فيها مافيها حتىٰ نازع فيها إمام الأئمة ابن خزيمة، وقد سبقه أبو ثور الذي شبهه الإمام أحمد بسفيان الثوري في الاتِّباع ولزوم السنة فقال فيه:«هو عندي في مسلاخ سفيان الثوري، أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة.» وفيات الأعيان[٢٦/١] .


*لو قيل:- 

        إن إثبات خلق آدم على صورة ذات الرحمن لايستلزم التشبيه؛ فصورة ذاته سبحانه كسائر صفات ذاته لا يشابهه فيها شيء من مخلوقاته إنما هو اشتقاق من المعنى العام للصورة الحسنة لا في الكيفية فحقيقة الصورتين في الواقع مختلفة ومتباينة في أقصى ما يُتصور من التميّز والتغاير والافتراق.


قلتُ:-

     إذن فيلزم أن لا يستوجب شيئا زائدا تجاه صورة آدم فتذهب فائدة الحديث؛ لأن كل الصفات من سمع وبصر وحياة...إلخ لا بد لها من تشابهٍ في أصل المعنى، وبهذا التشابه أمكنَ إدراكُ وفهمُ ما وُصِف اللهُ به من ذلك، ثم تتفاوت الصفات في الواقع الفعلي بحسب الموصوف بها، حتى معنى الوجود له أصل كليّ مشترك وهو معنىً مجرّد في الذهن أما في الواقع فوجود المخلوق غير وجود الخالق ولا نسبة بين الوجودين إلا كالنسبة بين الخالق والمخلوق.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في [شرح حديث النزول] صفحـ١١١ـة :-

«ولولا أن هذه الأسماء والصفات تدل على معنىًٰ مشتركٍ كُـلّيٍّ يقتضي من المواطأة والموافقة والمشابهة ما به نفهم ونثبت هذه المعاني لله لم نكن قد عرفنا عن الله شيئا ولا صار في قلوبنا إيمان به ولا علم ولا معرفة ولا محبة ولا إرادة لعبادته ودعائه وسؤاله ومحبته وتعظيمه، فإن جميع هذه الأمور لا تكون إلا مع العلم، ولا يمكن العلم إلا بإثبات تلك المعاني التي فيها من الموافقة والمواطأة ما به حصل لنا ما حصل من العلم لما غاب عن شهودنا.»

   قلتُ:-

     فهو إذن مناطٌ  منقوض لا يطّرد، وإلا فكل شيء موجود فله اشتقاق من أصل معنى الوجود !

فكذلك وجه الإنسان الذي هو صورته التي بها يُؤلَف ويـُـستأنَس به.

*عن عبد الله بن عمر: نَهى رسولُ اللهِ ﷺ أنْ تضربَ الصُّورة يعني: الوَجْهَ.

قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند ٤٧٧٩  : "إسناده صحيح على شرط الشيخين".

وعن عبدالله بن عباس:  قال النبي ﷺ: «الصُّورَةُ الرَّأْسُ، فإذا قُطِعَ الرَّأْسُ، فلاصُورَةَ.».  صححه الألباني، السلسلة الصحيحة ١٩٢١


 وسيأتي أن لبعض التأويلات المأثورة عن أهل السنة من المناسبة بين أول الحديث وآخره ماهو أظهر فائدة وأبلغ في الزجر عن ضرب الوجه وتقبيحه.

والذين تأوّلُوه إنما تمثّلوا توجيه إمامين من أئمة الصحابة علما وعملا، فقد ثبت عن علي بن أبي طالب و عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما:- «إذا حُدِّثتُم عن رسولِ اللهِ ﷺ بحديثٍ فـظُـنُّـوا به الذي هو أهدىٰ والذي هو أتقىٰ والذي هو أهيأ.» رواه أحمد والدارمي وابن ماجه وصححه الألباني.

فأقل ما يُقال:-

 إن التفقه والبحث في مثل هذا الحديث سائغ بل مطلوب وإن كانت بعض التأويلات ظاهرة الفساد ولايحتملها لفظ الحديث ولاتناسب النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه.

وأقل أحوال هذه المسألة أن تكون مما يسوغ فيه الاختلاف فلايُعاب إلا  من تعسف في نصرة رأيه وقصّر في التثبت والتحقق.

  وإنه ليصعب جدا أن يُـتـصور له معنىً يتفق مع:﴿لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦشَیۡءࣱ﴾ إلا إذا كان المراد الصورة التي خلقها الله وأبدعها، كما نقول: هذا البناء تصميم فلان، وكما تُـنسب أي لوحة فنية إلى الذي رسمها فيصح أن نقول لها: هذه صورة الرسام فلان، ونحو ذلك، وإلا كان في الحديث نوع تشبيه أو تكييف لوجه البارئ وصورة ذاته سبحانه وتعالىٰ علوا كبيرا.


 قال ابن تيمية وهو يتحدث عن إضافة الصفات:-

«...فإذا أضيفت إليه عُلِمَ أنها صفة له لكن قد يعبّر باسم الصفة عن المفعول بها فيسمّى المقدور قدرة والمخلوق بالكلمة كلامًا والمعلوم علمًا والمرحوم به رحمة كقول النبيﷺ : «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة» . وقوله -تعالىٰ- فيما يروي عنه نبـيُّه أنه قال للجنة: «أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء»، ويقال للمطر والسحاب هذه قدرة قادر وهذه قدرة عظيمة ويقال في الدعاء: "غفر الله لك عِلْمَه فيك" أي: معلومَه.» الجواب الصحيح [٣٦٢/١]

فعيسىٰ ابنُ مريم روحُ الله وكلمتُه، أي: خُلِق بكلمة الله:(كن)، لا أنه نفس الكلمة. كما قال الإمام أحمد: «وتفسير: ''رُوح الله" إنما معناها: أنها روحٌ بكلمة الله خلقها الله، كما يُقال: عبد الله وسماء الله وأرض الله.»[الرد على الزنادقة والجهمية] صفحـ٢٥٢ـة بتحقيق دغش العجمي.

وقال الإمام المرزوقي في [شرح الحماسة ٢٨٦] :-

«وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنىٰ مناسبة بينهما، سواء كان له أو عليه، أو معه أو فيه، أو من أجله، أو مما يليه.»

قال ابن تيمية:-

 «..بيت الله لايدل على أن الله ساكن فيه، لكن إضافة كل شيء بحسبه، بل بيته هو الذي جعله لذكره وعبادته ودعائه..» مجموع الفتاوى[٤٣٢/٢٠].

وفي الحديث الذي رواه مسلم عن جابر بن عبدالله أن النبيﷺ قال:-

«إِنَّ المرأةَ تُقْبِلُ فِي صورَةِ شيطانٍ، وتُدْبِرُ فِي صورةِ شيطانٍ، فإذا رأى أحدُكُم امرأةً أعجبَتْهُ فليأْتِ أَهْلَهُ، فإِنَّ ذلِكَ يرُدُّ ما في نفسِهِ».

ولايشك عاقل أن المقصود هنا الصورة التي يزينها الشيطان ويفتن بها لاصورة ذاته.


★ولو قيل:-

          إنه بتأويله على الصورة التي خلقها الله تذهب فائدة الحديث لأنه خصص آدم بذلك من بين سائر المخلوقات التي هي على صورة الرحمن التي خلقها لها ؟!

فالجواب:-

*أن الإضافة المعنوية تأتي كثيرا للاختصاص بالتفضيل والتكريم.

كما قال ابن تيمية:-

«..لكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره حتىٰ استحق الإضافة، كما اختصت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم: "بيت الله" و "ناقة الله" و "عباد الله" ، كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها: "روح الله". بخلاف الأرواح الخبيثة كأرواح الشياطين والكفار فإنها مخلوقة لله ولاتضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة، كما لاتضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة، ولانوق الناس كما تضاف ناقة صالح التي كانت آية من آياته كما قال تعالىٰ: ﴿هَـٰذِهِۦ نَاقَةُ اللهِ لَكُمۡ ءَایَةࣰ﴾. » الجواب الصحيح [٢٤٠/٢]

     والإنسان خلقه الله على أحسن تقويم، فأضيفت صورته إلى الرحمن تكريما وتفضيلا؛ فإن صورة الآدمي أحسن صورة خلقها الله فهي آية دالة على قدرته وحسن صنعه وبديع خلقه فليس لنا أن نعدو عليها بالفعل ولا بالقول. وعيب الصنعة عيبٌ لصانعها، فلاينبغي تقبيح صورة ميّزها الله ورفعها علىٰ باقي الصور فهي صورته التي اصطفاها ومـيـّـزها على جميع الصور وهذا مناسب جدا لتمييز آدم بمباشرة الرحمن لخلقه بيديه سبحانه وتعالى.


* كل ماسبق إنما هو علىٰ التسليم بصحة لفظ «..على صورة الرحمن»، فقد طُعن فيه وأعله ابن خزيمة بعلل ثلاث وذكر له الألباني علة رابعة شرَحها في السلسلة الضعيفة.

*ولقد أعرض الإمام مسلم عن هذا اللفظ في صحيحه مع عادته المعروفة في ذكر الألفاظ المختلفة للحديث الواحد، فلم يخرجه إلا باللفظ المشهور: «..علىٰ صورته».

 بل لم يرد لفظ «..على صورة الرحمن» في شيء من الكتب الأصول كالكتب الستة ومسند أحمد وموطأ مالك ونحوها من الصحاح والمسانيد والسنن المشهورة التي يقل فيها الغرائب والمناكير.

ولقد أشار ابن قتيبة إلى ركاكة تركيبه لأنه يشبه قولك: "..إن الله خلق آدم على صورة الله"، وكأنه من تصرف بعض الرواة بقصد منع البحث والاجتهاد في مايمكن أن يحتمله لفظ:«علىٰ صورته» من أوجه ومعانٍ، وهذا من التعدي واللجاج كما يقول ابن قتيبة.


★ وما ذُكر آنفا من تأويل إنما بُنِيَ على التسليم أيضا بأن الضمير في: (صورته) راجع إلىٰ ذات الله سبحانه وتعالى.

    وإننا لفي سعة من مرجع الضمير إذ رجوعه إلى المضروب في وجهه أو المقبَّح مناسبٌ تمام المناسبة للنهي عن ضربه، فإن الإنسان بطبعه يشق عليه أن يضرب وجها تشبه صورته صورة أبيه، وما جيء بذكر الأب والوالد (آدم) إلا لتنفير المؤمن من ضرب شبيه أبيه في الصورة وهو مكرّم في أصله ولو استحق القتل والرجم والتعذيب في غير الوجه، فذكّرنا النبي ﷺ بأن آدم أبانا على هذه الصورة فلايصح أن نوقع عليها ضررا معنويا بالقول أو ماديا بالفعل. إلا أن يكون قصاصا العين بالعين والأنف بالأنف وهكذا. أما العقوبات العامة فلا حاجة لإيصالها للوجه ولو كان المضروب يستحق القتل وهذا يشبه عقوبة الحرق بالنار فقد ثبت النهي عنها وقال ﷺ :«إنه لاينبغي لأحد أن يُعذب بعذاب الله».


================

وليس حديث الصورة بأوّل نص تأوّله أهل السنة:-

قال الله تعالى: ﴿وَلِلهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُ فَأَیۡنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجۡهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَ ٰ⁠سِعٌ عَلِیمࣱ﴾

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى [٤٢٩/٢] :-

«..أي قبلة الله ووجهة الله، هكذا قال جمهور السلف وإن عدّها بعضهم في الصفات…وهو الوجه الذي لله والذي أمر الله أن نستقبل. فإن قوله:﴿ولله المشرق والمغرب﴾ يدل على أن وجه الله هناك من المشرق والمغرب الذي هو لله...» 

ومن ذلك ماجاء عن بعض السلف في تفسير: ﴿الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة..﴾ الآية قال: مثَل نوره في قلب المؤمن.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى [٤٣٤/٢٠] :-

«وقلنا: المساجد بيوت الله فيها ما بني للقلوب والألسنة من معرفته والإيمان به وذكره ودعائه والأنوار التي يجعلها في قلوب المؤمنين كما في قوله تعالى:﴿الله نور السماوات والأرض﴾ ثم قال: ﴿مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة﴾ إلى قوله: ﴿في بيوت أذن الله أن ترفع﴾  فبين أن هذا النور في هذه القلوب وفي هذه البيوت كما جاء في الأثر: " إن المساجد تضيء لأهل السماوات كما تضيء الكواكب لأهل الأرض ".»

الخميس، 4 يوليو 2019

وضع القدم في جهنم

قال ابن تيمية في جامع المسائل [٢٣٩/٣] :-

«...وكما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين؛ وقالت النار: يدخلني الجبارون المتكبرون. فقال الله للجنة: "إنما أنت رحمتي أرحم بك من شئت"، وقال للنار: "إنما أنت عذابي أعذب بك من شئت، ولكل واحدة منكما ملؤها". فأما النار فلا يزال يلقى فيها وتقول: "هل من مزيد"، حتى يضع رب العزة فيها -وفي رواية: عليها- قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط! قط».

... وقد يغلط في الحديث قوم آخرون ممثلة أو غيرهم، فيتوهمون أن «قدم الرب» تدخل جهنم. وقد توهم ذلك على أهل الإثبات قومٌ من المعطلة، حتى قالوا: كيف يدخل بعض الرب النار والله تعالى يقول: ﴿لَوۡ كَانَ هَـٰۤؤُلَاۤءِ ءَالِهَةࣰ مَّا وَرَدُوهَا﴾، وهذا جهل ممن توهمه أو نقله عن أهل السنة والحديث، فإن الحديث: «حتى يضع رب العزة عليها -وفي رواية: فيها-، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط وعزتك»، فدل ذلك على أنها تضايقت على من كان فيها فامتلأت بهم، كما أقسم على نفسه إنه ليملأنها من الجنة والناس أجمعين، فكيف تمتلئ بشيء غير ذلك من خالق أو مخلوق؟. وإنما المعنى أنه توضع القدم المضاف إلى الرب تعالى، فتنزوي وتضيق بمن فيها. والواحد من الخلق قد يركض متحركا من الأجسام فيسكن، أو ساكنا فيتحرك، ويركض جبلا فيتفجر منه ماء، كما قال تعالى: ﴿اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب﴾

وقد يضع يده على المريض فيبرأ، وعلى الغضبان فيرضىٰ.»


أقولُ:-

رواية: «فيها» مشهورة مستفيضة ولعلها أكثر وأرجح، وأقل أحوالها أن تكون فهمَ صحابيٍ أو تابعيٍ، فإنّ مقتضىٰ لفظ:«عليها» لاينفي مدلولَ:«فيها» ولايناقضه، وذلك لأن الحرف:(علىٰ) لايمنع المُداخَلة كقوله تعالىٰ: ﴿وَعَلَىٰ ٱلۡفُلۡكِ تُحۡمَلُونَ﴾ بل إنه إذا استعمل للنار كان قريبا جدا في المعنىٰ من:(في) كقوله تعالىٰ: ﴿یَوۡمَ هُمۡ عَلَىٰ ٱلنَّارِ یُفۡتَنُونَ﴾ أي:يُعذَّبون فيها. وبهذا يزول الاختلاف في تفسير قوله تعالىٰ: ﴿وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَا...﴾ فالمرور على الصراط نوع من الدخول فيها، فهو دخولٌ ما، وهو دخولٌ دون دخول، فهو للمؤمنين وُرودٌ غير مستقر.

وهو لغيرهم ثابت مستقر: ﴿یَقۡدُمُ قَوۡمَهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیامَةِ فَأوۡرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئۡسَ ٱلۡوِرۡدُ ٱلۡمَوۡرُودُ﴾


قلتُ:-

فاللجوء إلىٰ رواية:«عليها» لايشفي من ظاهر هذا الحديث.

وما هذا الخبر إلا كخبر نزول الله سبحانه إلىٰ سماء الدنيا وكذلك استواءه سبحانه علىٰ العرش لايلحقه -سبحانه- في ذلك مايلحق المخلوق، فالله أكبر وأجل وأعظم من أن يحويه مخلوق أو يحيط به -سبحانه- يفعل ما يشاء ولاينقصه شيئا من علوه وعظمته وجلاله، كما خلق أبانا آدم بيديه الكريمتين، وهذا هو معنىٰ اسمه "ذو الجلال والإكرام" فلا منافاة بين جلاله وكبير قدره وعلوّ شأنه وبين إكرامه لخلقه واقترابه منهم.

والعرش مخلوق وسماء الدنيا لها أهلها وسكانها والنار لها أهلها وسكانها، ولافرق بينهما في حق الله سبحانه، فالنار نفسها ووقودها وخزنتها عباد لله قانتون لاذمّ عليهم ولاغضاضة فيما هم فيه، ولا يلحقهم ما يلحق الكفار والعصاة من الهوان والذلة فما الظن بالله الكبير المتعال الذي هو رب كل شيء وفاطره ومليكه ومدبره بعلمه وقدرته ومشيئته سبحانه وتعالىٰ علوًّا كبيرا.

أما آلهة الكفار فإنها حصب جهنم تنفعل لها فتحترق وتُحرق عبدتها كالحجارة التي توقد بها النار فيكون هذا برهانا ودليلا قاطعا علىٰ أنها لاتستحق العبادة بل يُعذب بها الكفار كما يُعذب الذين يكنزون الذهب والفضة بها ﴿یَوۡمَ یُحۡمَىٰ عَلَیۡهَا فِی نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَـٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُوا۟ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ﴾.


الاثنين، 4 مارس 2019

الوجه

في جامع المسائل لابن تيمية[49/1]:-


ويجوز في الوجه ماجاز في الذات
فقال الطبري:-
«وقوله ( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )يقول: والله خير منك يا فرعون جزاء لمن أطاعه، وأبقى عذابا لمن عصاه وخالف أمره.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) : خير منك ثوابا، وأبقى عذابا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب، ومحمد بن قيس في قول الله ( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) قالا خيرا منك إن أطيع، وأبقى منك عذابا إن عُصي.»